رجال خدموا البلاد

رجال خدموا البلاد بدون خلفيات "سي مبارك مول البوسطة "

(لقد راودتني فكرة الكتابة عن التاريخ الحديث لابن جرير منذ أكثر من عشر سنوات،

لكن الظروف كانت دائما تحول  دون ذلك. وبعون من الله وإيعاز من بعض الأصدقاء، قمت

بالخطوة الأولى في هذا الاتجاه، بنشر ثلاثة مقالات على صفحات إحدى الجرائد الإلكترونية

المحلية، لاقت إعجابا هائلا من طرف القراء، سأعمل على إعادة نشرها بالتوازي في مدونتي الشخصية، وعلى صفحات http://www.benguerir.net    

وفي ما يلي المقال الأول حول أحد الرجال الذين أعطوا للبلدة، في صمت، أكثر مما أخذوا.)

ندشن بهذا المقال سلسلة نخصصها لبعض المرافق العمومية التي كان لها السبق في ولوج قرية ابن جرير منذ أوائل القرن العشرين، ولبعض الوجوه التي بصمت هذه المرافق. ونبدأ بمرفق "البريد والتلغراف والتلفون" أو ما كان يسمى " PTT "  الذي يرجع تاريخ إحداثه بابن جرير إلى نهاية أربعينيات القرن العشرين. 

كـَهـْلٌ في الخمسينيات يمتطي دراجة هوائية، مدجج بكومة مستديرة من الأسلاك الهاتفية وبحبل يستعمله في جر تلك الأسلاك، وبكماشتين تمكنانه من صعود الأخشاب، تلك هي الصورة التي ما زال يحتفظ بها قدامى ابن جرير للسيد مبارك الجابري، الذي كان يلقب تارة  بـ: "سي مبارك مول البوسطوة" ربما لكونه كان يقطن بجانب مكتب البريد، وتارة أخرى "مول السلك" لكونه المسئول الرئيسي

عن الهاتف آنذاك والمحاور الوحيد لكل من كانت ضالته تواصلية هاتفية.

ورشة متنقلة فوق دراجة هوائية بسيطة، جنوبا على طول الطريق الذي يربط ابن جرير بقرية سيدي بوعثمان (35 كلم) وشمالا على طريق صخور الرحامنة (30 كلم)، والهدف إصلاح أسلاك الخطوط الهاتفية لينعم المحظوظون القلائل آنذاك بالتواصل السلكي. وحينما يجن عليه الليل بإحدى هاتين القريتين، كان يضطجع مفترشا ما تيسر على الأرض وملتحفا معطف الخدمة شتاء، والسماء صيفا. ولم تكن التقلبات الجوية ولا الأعطاب المحتملة لدراجته، لتثني سي مبارك عن التنقل لأداء واجبه.

ورغم جهله بالقراءة والكتابة، كان سي مبارك يعرف الأعداد، الشيء الذي يمكنه من كتابة أرقام الأخشاب الهاتفية، وتركيب أرقام هاتف مكتب البريد بابن جرير أو المصلحة الإقليمية للبريد والتلغراف والتلفون بمراكش، على الهاتف الآلي المحمول "  Le Combiné" الذي يقوم بربطه بالأسلاك وهو عالق بأعلى أخشاب الهاتف، للتواصل والتيقن من كون العطب الذي استدعى تنقله قد تم إصلاحه.

أما في ما يخص التوثيق الذي يقتضيه عمله، فقد ابتدع هذا الرجل رموزا يستعملها للتدليل عل النقطة الكيلوميترية "PK" التي تناسب الخشبة التي وقع بها العطب. ولما يعود من المهمة التي قام بها، كان يستعين بأحد الموظفين محمد زاهيدي أو محمد السعيدي، لكتابة التقرير الذي كان يبعث به إلى المصلحة الإقليمية.

وعلى قدر التفاني الذي كان يبديه في عمله، كانت تأتي مصاريف التنقل، التي كانت لا تحتسب على أساس التنقل بدراجة هوائية، وعلاوات المردودية، حيث لم يثبت أنه حصل على نقطة أقل من 5 التي كانت تعتبر أعلى تنقيط سنوي يحصل عليه موظفو البريد آنذاك.  

ومما كان يحرج المدير الأقليمي الفرنسي للبريد والتلغراف والتلفون بمراكش، كونه لا يستطيع فعل شيء لترقية سي مبارك نظرا لجهله بالكتابة والقراءة. لكنه اهتدى إلى طريقة لإنصاف الرجل وإعطائه الحق في الترقية ككل الموظفين. وكان الحل هو إخضاعه لامتحانات ميدانية كان ينجح فيها بامتياز، الشيء الذي مكنه من تسلق السلالم الإدارية من عون خارج الإطار، إلى رئيس ورش، لينتهي به مساره الإداري إلى رتبة عون تقني. وكان هذا الرجل رغم ظروفه وجهله، يبهر رؤساءه الذين كانوا يعتبرونه من التقنيين البارزين في ما يخص آلة الهاتف والبطاريات الضرورية لتشغيلها في ذلك الوقت. 

ويمكن اعتبار تسميته "مول البوسطة" اسما على مسمى لكون أولاده الثلاثة كلهم تدرجوا في أسلاك البريد:

لحسن الجابري الذي عمل بالتعليم قبل الالتحاق بالبريد، والذي فتح لنا باب داره على مصراعيه بمدينة أمزميز وزودنا بمعلومات كنا في أمس الحاجة إليها؛

الحسين الجابري الذي كان أول الملتحقين بإدارة البريد بابن جرير؛

وعمر الجابري الذي شاءت الأقدار أن يترأس مكتب البريد لابن جرير سنين بعد وفاة والده.

وقد توفي سي مبارك الجابري رحم الله وجازاه عن أهل ابن جرير خير الجزاء وأسكنه فسيح جناته، سنة 1985 عن سن تناهز 85، قضى منها 40 سنة في الخدمة.

إعداد: محمد لعبادي

مبارك الجابري وابنه الأكبر لحسن الجابري